لوحتا بريصا ممرّ نبوخذ نصّر إلى أرز لبنان
تبعد قرية بريصا نحو 12 كيلومتراً عن مدينة الهرمل، وسط ممر جبلي يربط منطقة الشربين بمرجحين والبلدات والتلال المحيطة. تنتشر بيوتها المتواضعة وسط أشجار عملاقة ومعمرة. هناك، على الطريق المؤدية إلى غابة وادي الشربين، حفر الفاتح البابلي نبوخذ نصّر الثاني اسمه على أكبر لوحتين عرفتهما الحضارة البابلية، وكتب على صخور هذه المنطقة أطول نقش بابلي في العالم يتألف من 1400 سطر بالكتابة المسمارية.
أول من اكتشف هذه النقوش في 16 تشرين الأول 1883 الديبلوماسي والمستشرق الفرنسي هنري بونيون Henri Pgnon الذي كان علاّمة في اللغات الشرقية القديمة كالأشورية والسريانية والآرامية، وله عدد وافر من المؤلفات حول الآثار في الشام وبلاد ما بين النهرين وجهات الموصل ولبنان. وقد أمضى بونيون معظم حياته المهنية كدبلوماسي فرنسي في المشرق العربي متنقلاً بوظيفة قنصل بين العراق وسورية ولبنان، باستثناء فترتين قضاهما في ليبيا. وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، كان يفكر بالعودة إلى سورية ما أن تهدأ الحرب، ولكن الموت عاجله في العام 1921، فلم يتمكن من تحقيق رغبته، ولكنه نجح في ترك إرث علمي استشراقي واسع. ومن بين أبرز مؤلفاته كتاب «النقوش البابلية في وادي بريصا» Les Inscriptions babyloniennes de Wadi Brissa الذي يعرض فيه ظروف عثوره على نقوش وادي بريصا، ويصف فيه الوادي وموقعه وتضاريسه وطبيعة جواره وأحوال سكانه. كما يصف موقع النقشين والتلف الذي أصابهما، ويضع ترجمة لنصوصهما.
وقد كتب بونيون في إحدى رسائله يصف عودته الى بريصا عام 1884، بعد سنة من اكتشافه لها، فيقول:
«يقع وادي بريصا في المنقلب الشرقي للبنان، على مسافة ساعتين ونصف شمالي بلدة الهرمل، وعلى حوالي 45 كلم، كخط مستقيم، شرقي طرابلس الشام، وعلى بعد من 7 إلى 8 كلم من نهر العاصي. يتجه الوادي وهو يرسم عدة منعرجات من الشمال الشرقي نحو الجنوب الغربي، ويصل الصاعد فيه بعد مسير بضع ساعات إلى منبسط فسيح من الأرض على ارتفاع كبير تحيطه الجبال من كل الجهات ويسميه سكان المحلة مرج حين. ومن هذا الموضع يمكن، عبر الجرد، أي المنطقة الوسطى من (جبل) لبنان، الوصول إلى طرابلس الشام بمسير يومين. هذا الوادي غير مزروع، ولا يقطنه سوى قلة من المتاولة الرحالة الذين يعيشون تحت الخيم، ويرعون الكثير من قطعان الماعز. ونجد في أسفل الوادي بضعة أكواخ بائسة يأوي إليها البدو في الشتاء. وعلى العموم من الصعب وصف مظهر هذه المنطقة البري والمنعزل. على من يقصد وادي بريصا قادماً من الهرمل أن يتجه أولاً نحو الشمال، ليدخل لبنان عبر وادي الشربين الذي يتشعب، فيؤدي شعب اليمين إلى وادي فيسان، وشعب اليسار إلى وادي بريصا. والصاعد في هذا الوادي يصادف على مسير ثلاث ساعات من الهرمل تقريباً بعض الدواثر المشوّهة التي تحتل قعره، ويرى على منحدر الجبل على اليمين النبع الوحيد الذي نصادفه قبل بلوغ مرج حين. تفحصت هذه الدواثر بكل عناية فلم أعثر فيها على أي نقش؛ ولكني وجدت فقط حجراً كبيراً عليه ثلاثة صلبان محفورة بكل وضوح. وبدا لي بدهياً أن ثمة قرية مسيحية وكنيسة كانتا قائمتين هنا، ولكني لم أتمكن من معرفة أي شيء عن زمن دمارهما، والمتاولة الذين يقيمون في هذا الموضع الآن يجهلون حقيقة هذه الدواثر التي لا يبدو بالتأكيد أنها تعود إلى العصر الروماني.
بعد نصف ساعة من الصعود في الوادي انطلاقاً من موقع هذه الدواثر نرى على يمين ويسار الدرب نقشي نبوخذ نصّر. النقشان محفوران في الصخر ومعهما نصبان؛ ولكنهما مع الأسف على حال بائسة. وأخبرني أبناء المحلة أن وضعهما كان سليماً لبضع سنوات خلت، ولكن، ثمة مغربي مرّ من هنا اعتقد أن فيهما كنزاً فعمل على تخريب الصخور بآلة حادة لكشفه. ولما عثرت بالقرب من نقش اليمين على جزء من النصب ثبت لي أن المتاولة لم يخدعوني، وان تشويه هذين النقشين كان حديثاً. وإنه لمنتشر في لبنان الاعتقاد بوجود الكنوز المخفية، وأن جميع الصخور التي تحمل نقوشاً تحتوي عليها. ولهذا فإن عدد المواقع الأثرية التي أدى هذا الاعتقاد السخيف إلى تدميرها كبير للغاية مع الأسف. ولقد اضطررت، حتى تمكنت من إقناع المتاولة أني لست هنا بحثاً عن الكنز، أن أصور لهم أن هذه النصوص قد تم نقشها من قبل ملك فرنسي قديم حكم لبنان، وأني أرغب بنسخها ليتعرف أبناء وطني الفرنسيون على مجد أجدادهم. انطلقت من بيروت في 10 أيار، ووصلت وادي بريصا في 14 منه، وشرعت فوراً بنسخ النقوش وبأخذ ما أمكن من رشم لها. وإليكم على العموم وصفاً موجزاً للنقشين وللنصب المرافقة لهما:
نقش اليسار: نصب يمثل رجلاً على رأسه قلنسوة شبيهة بالتاج المدقق من الأعلى الذي يضعه الأساقفة اليوم، وأمامه شجرة. وسط النصب وأسفله مختفيان تماماً. أما النقش فيحتوي 10 أعمدة مكتوبة بحروف حديثة. طوله تقريباً 5.50 م، والارتفاع بين أعلى سطر وآخر سطر، في أطول الأعمدة حوالى 2.80 م.
نقش اليمين: نصب بحالة سيئة للغاية يمثل رجلاً يعتمر القلنسوة الأشورية يقبض على حيوان واقف أو يضربه، والحيوان هو على الأرجح أسد. خلف الرجل ثمة فراغ كان يجب أن يكون منقوشاً عليه صورة إلاهة. الصورة مختفية كلياً. النقش محفور بحروف قديمة ويتألف من 9 أعمدة. المنطقة السفلية مختفية تماماً، ومن المستحيل معرفة ارتفاع السطور الأخيرة لكل عمود عن سطح الأرض. طول النقش حوالي 5.50م، أما ارتفاع أعلى سطر في كل عمود عن سطح الأرض فحوالي 3 م.
لا تخبرنا نقوش وادي بريصا، ككل نقوش نبوخذ نصّر المعروفة حتى اليوم، عن شيء غير الأبنية التي أنشأها هذا الملك في بابل، والهبات التي تلقاها من الآلهة، وبراهين التقوى التي يقدمها. ثمة جملة في العمود التاسع على يسار النقش يبدو أنها تتعلق بحملة في لبنان، ولكن النص مع الأسف مشوه ومتعذر الفهم.
وتفيد المعلومات التي جمعتها ميدانياً أن هذه المنطقة كانت في ما مضى مغطاة بالغابات، وإني لأميل بالتالي إلى الظن بأن النقشين البابليين يؤشران على موضع ورشة يتم فيها قطع الأشجار بغية إرسالها إلى بلاد ما بين النهرين. وفي الواقع، يخبرنا نبوخذ نصّر أنه استعمل خشب لبنان في بناء المعابد التي أقامها في بابل، ولعله أمر فريد أن نجد نصوصاً لا كلام فيها عن حملات عسكرية وهي منقوشة في واد مهجور وبعيد إلى هذه الدرجة عن أي منطقة مأهولة».
وقد أطلقت أبحاث بونيون موجة من البحث والتحري عن التراث التاريخي البابلي في المنطقة. وكان العالم الألماني ويسباخ من أبرز الذي اشتغلوا على هذه النقوش وخرج في مؤلَّف له عام 1906 بترجمة أكثر وضوحاً حول طبيعة الحملة البابلية في جبال لبنان بقيادة نبوخذ نصّر الذي يُنسَب إليه في بعض مضمون هذه النقوش «استناداً إلى ثقتي بالإله نابو ومردوخ حشدت جيشاً وقمت بحملة... وحررت لبنان من أعدائه وأعدت إليه أبناءه المشردين. وعملت، أكثر مما فعله أي ملك قبلي، على تحطيم الصخور وشق الممرات في الجبال الوعرة، وفتحت الطرق من أجل نقل الأرز، هذا الشجر الضخم والصلب والجميل للغاية بخشبه الداكن اللون، الذي ينمو في لبنان كما ينمو القصب في النهر. واجتزت الوديان العميقة، وفتحت لجيشي الممرات بين الصخور. وبلغت جبل الأرز العابق برائحته الفاتنة، ذلك الشجر الذي لم يسبق لملك أن اقتطعه، وخصصت هذه الأشجار لتزيين قصور ومعابد الإله نابو ومردوخ. وبسطت الأمن والسلام في لبنان. ومن أجل أن اقدم أمثولة لمن يطمع بهذه الأرض أنشأت هذا النصب حيث أثبت أني ملك هذه الأصقاع، وملك حكمه أبدي، والسلام على من يعي هذا الكلام».
ويؤكد العلماء المختصون أن لنقوش وادي بريصا أهمية كبيرة في تبيان تراث الحضارات والشعوب في الشرق القديم. فتحت عنوان «نبوخذ نصّر الثاني من بابل إلى جبل الأرز» وُضع على أحد مداخل معرض «بابل»، الذي أقيم في متحف اللوفر بباريس، نص لنبوخذ نصر الثاني مأخوذ عن هذه النقوش.
وعلى مسافة غير بعيدة من اللوحة توجد كنيسة يعود تاريخها الى القرن الخامس الميلادي حسب كتابات وجدت فيها. تبلغ مساحة هذه الكنيسة 200 متر مربع وتتألف من عدة حجرات ومداخل تؤدي
الى الحجرة النصف دائرية حيث يوجد المذبح. ولم يبق من الكنيسة اليوم سوى بقايا أعمدة وجدران يغلب عليها الإهمال ولم تطلها يوماً أعمال الرعاية والتنقيب.